الفتوة / العزوة

القائمة البريدية

إشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد الموقع .

* عبد الله العلوي

في مصر يسمونهم {الفتوات} مفردها (فتوة)، وفي الشام يلقبونهم {الشقاوات} مفردها (شقي)، وفي المغرب اختلفت الأسماء، ففي مراكش يطلقون عليهم لقب {الصحاح  أو الصّْحيح <=من الصحة>}، وأحيانا {العزوة}، وفي الدار البيضاء يطلقون عليهم {سبيرات <=سبيرة>} وهو اسم جديد بدأ في الثمانينيات من القرن الماضي.

وكان في كل حي هناك {فتوة} أو {عزوة} أو{صحيح} أو{سْبيرة}، وكان يقود المعارك ضد فتوة الحي الآخر أو فتوات الأحياء الأخرى، وكان مدافعا عن الحومة أو الحي ولا يقبل أن يظلم أحد من طرف آخر في حومته “الفاضلة“. كان في الأغلب يتميز بقوة جسدية ويتحمل الضرب، وكانت جلساته تبدأ بالليل غالبا، إذ الفتوة في مراكش على وجه الخصوص كان يتناول الخمر أحيانا، ويحترم أهل الحي الأفاضل ويسلم عليهم بأدب، وقد يمارس تجارة ممنوعة غالبا يبيع الخمر بدون رخصة أو الإشراف على لعب الورق وأخذ الملزومة –الباراتو– من اللاعبين ويتلقى هبات عينية ومالية من السكان. وقد يقبض عليه أحيانا ويدخل السجن لفترات، فالسجن للرجال كما يقال. وعادة يمارس رياضة تكوين الأجسام وحمل الأثقال، وقد انتشرت هذه الرياضة في مراكش، وارتبطت بالأفلام الرومانية “هرقل” و”شمشون و”ماسيست“، فكل شاب يريد أن يكون ضخم أو كامل الجسم حتى يخشاه الآخرون ويحترمونه، وبالتالي يحترمون أسرته. لقد كان الفتوة قدوة في فترة ما تروى عنه الأساطير، فحكاية معركة واحدة مع فلان أو فتوة الحومة الأخرى تتحول إلى حكايات وروايات مختلفة وبصيغ عديدة تتحول إلى أسطورة وقدرات خيالية للفتوة

البداية

بدأت حكاية الفتوة في مراكش مع {مولاي الحسن كومينة}، كان كومينة في الأصل جنديا أو قبطانا عند البعض في الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي عمل بطولي قام به ضد الألمان وفي رواية أخرى ضد الفيتناميين فقد إحدى رجليه، وتقاعد من الجيش وتحول إلى فتوة أو صحيح مراكش.

مرة جاء الفرنسيون لاعتقاله في بداية الخمسينيات من القرن الماضي وكانوا اثني عشر  واتكأ كومينة على الجدار برجله المقطوعة / الخشبية وغلبهم؛ رغم رجله المقطوعة كان يرمي بهم مثل “المونيكات ” <=الدمى>، وكان عندما يدخل إلى “الكارتي” <=حي الدعارة> يهرب الجميع ويبقى وحده مع النساء؛ وكان الباشا التهامي الكلاوي باشا مراكش واسع النفوذ “يرعاه” ويقدم له هدايا ومساعدات و”يستقبله” أحيانا، وروايات لا تنتهي عن بطولات كومينة، الذي استطاع مواجهة الكل. وكان يتميز بالشرف والأمانة وعدم السرقة وغيرها من الادعاءات وبالطبع أغلب الحكايات عنه ككرة الثلج التي تتحول إلى جبل أو عاصفة. عاش كومينة طويلا وفي الأخير اضطر لاستعمال دراجة / إعاقة، كان شباب الحي يدفعونها به، وكان القدامى يشيعونه بابتسامة ذات معنى شجع الاستعمار ظاهرة كومينة – مثل ظواهر اخرى- وشكلت حكاياته التي وقعت والتي لم تقع، فرجة ورعب محبب وبطولة يستعيظ عنها الجمهور عن هزيمته أمام الاستعمار / الكافر، فهناك بطل في الواقع غير “الولد” أو البطل في الفيلم، وهو منا وليس منهم.

تطورت ظاهرة الصحيح مع الاستقلال، وخصوصا في مرحلة الستينيات من القرن الماضي، كان الصراع السياسي بين السلطة والمعارضة في أعنف مراحله، وكانت الشرطة بكاملها قد تحولت إلى شرطة سياسية، وكانت تدفع الجمهور للقيام بكل شيء إلا الحزبية أو المعارضة، وكان المخمور المعتقل يفتخر أمام الشرطة : أنا لا أمارس السياسة ، أنا أحب السكر فقط. ويتضاحك رجال الشرطة ويطلقون سراحه. وفي الصباح يبدأ في الحكي عن الذي وقع له  أو لم يقع أصلا حسب الأحوال. ومع الصراع السياسي، انتشرت ظاهرة العزوة وأصبح لكل حي{صحيحه}أو {فتوته} الذي يمارس وظيفتين، فهو يقوم بالإشراف على الحي ونشر الانضباط، وأيضا قد يساعد السلطة في أعمالها وإبلاغها بكل ما جد، وقد يتكلف باعتقال  أو ضرب الذين يخرجون عن الطاعة، وقد يزوره أفراد الشرطة أحيانا لسبب ما، مما يزيده احتراما من طرف أهل الحي أو خوفا لأنه يملك السلطتين : (القوة والنيابة) عن السلطة التي كانت مشغولة بالصراع السياسي، وتكلف {الصّْحاح}  أو {الفتوات} بالجانب الأمني في الأحياء.

لكن الظاهرة بدأت في الوهن، فقد اعتمد {الفتوات} على قوتهم العضلية فقط في البداية بدون استعمال أي سلاح في غالب الأحيان، لكن ظهر منافسون لهم يبيعون الخمر وأشياء أخرى ممنوعة ويفرضون أنفسهم في السوق بالسكاكين، فرغم هزالتهم الجسمانية كانوا يملكون السلاح؛ فكان {الفتوة} يتعرض لضربة غادرة أو أثناء المواجهة طعنا بالسكين مما يفقده القدرة على النزال، وأحيانا يضطر للذهاب إلى المستشفى والغياب عن الحي؛ كما أن السلطة بعد أن انتهى زخم الصراع السياسي عادت لممارسة حقوقها كاملة في الأحياء، وبالتالي فقدت ظاهرة “الصحة زخمها. وكذلك رياضة كمال الأجسام والملاكمة التي انتقلت إلى المرتبة الثالثة أو الرابعة بعد انتشار ألعاب أخرى ككرة القدم والعدو، وصار الجسم عبء على صاحبه، فالرشاقة سيدة المرحلة .

الثأر من الآخر

قد يقود {العزوة} وحده أو مع مساندين له غزوة للثأر من شخص ما قام –مثلا– بالتحرش أو مطاردة فتاة من الحي الذي يبسط العزوة حمايته عليه؛ وقد يتدخل عزوة الحي الآخر وتستمر المعارك لأيام وأسابيع إما بالرؤوس أو بالعضلات، وربما يتدخل أهل “الحل والعقل” لإيقاف هذه المبارزات بعد أن استنفدت أغراضها تم يبدأ الحكي وتتحول الإشاعات إلى أخبار وإلى “حقائق” وحكايات مسهبة يرويها رفاق {العزوة} أو الذين يزعمون ذلك، وتضاف البهارات ويتأثر الأطفال بهذه الروايات، وقد ينحرف بعضهم وينجرف في محاولة لتقليد العزوة تنتهي غالبا بالضياع.

و{العزوة} الذي لا منطقة له، قد يمارس عملا مثلا أمام قاعات السينما فيشتري التذاكر ويبيعها بثمن أغلى نظرا لكون السينما كانت الوسيلة الأولى للترفيه، وتعرف إقبالا إنما يبقى العزوة دائما جزءا من حومته وحيه، فهناك يشعر بالدفء وخارج الحي يحس بالغربة ، ففي الحي موطنه هو الفران حيث يطبخ الخبز والفرناتشي حيث تطبخ الطنجية، وقد يخرج مع “مُريديه” إلى الحقول للتفريج عن النفس مرة كل أسبوع أو في الأعياد.

هناك من يرى أن فكرة {الصحيح }أو {سبيرة}، تعود للفارس المغوار الذي كان يحمي قريته أو قبيلته أو يقود المعركة ضد باقي القرى والقبائل، والتي صدرت في كتب السيرة كالعنترية والأزلية والإسماعيلية، بل وأحيانا في صور مرسومة مثل صور سيدنا علي ورأس الغول، ثم دخلت السينما على الخط في الأفلام الرومانية وباقي الأفلام التي تركزت على صورة البطل المقدام ذي القوة الخارقة.

وبعد مرحلة كومينة الذي كان بطلا عاما، جاءت مرحلة أخرى صار لكل حي {الصّْحيح}الخاص به، وقد يكون {الفتوة} أو {العزوة} أو {سبيرة} أو بطل الحي أكثر من واحد، فمثلا كان (بلعريف في الزاوية العباسية ومعه الخص)، و(كْرِعينا في الموقف، ولكراك في الموقف أيضا)، و(حسن العرب في باب ايلان)، و(العفريت بحي القصبة)، و(الحلوي في اسبتيين)، و(كادي في عرصة الحوتة)، و(مْقَطَّعْ السْلاسل في عرصة لغزايل)، وفي (باب دكالة عمير والنمايْس وعياد)، و (بدرب ضبشي حمودة)، و(بحي بريمة خيو وولد سام)، وبحي باب احمر ساي صماح)

بعد هذه المرحلة، ومع ظهور الصراع بالأسلحة، بدأ البعض ممن لا يملكون أخلاق القدامى الذين كانوا يتعاركون بأيديهم فقط بُدِأ في استعمال الأسلحة خاصة السكاكين. وظهرت ممارسة جديدة بكل المقاييس هي تواجد وفرض هؤلاء الأشخاص لأنفسهم في الأحياء وأغلبهم أفاقيين جاؤوا لمراكش في الغالب من مناطق البادية أو مناطق أخرى، وسكنوا أحياء المدينة القديمة، ونظرا لكونهم لا يملكون أجساما ضخمة أو قوية ولا تاريخية القدامى أو معاركهم (المشرفة) ذات البعد البطولي، فقد استعملوا السكاكين لإثبات أنفسهم والحلول محل الفتوات القدامى، وبيع الخمر بدون رخص، والاعتداء على الناس، وقطع الطريق، وسلب المارة أموالهم، ونشر الرعب في الأحياء. فكان لا بد من تدخل الشرطة، وكان من أهم هؤلاء ولد العريبية، وعبد الرزاق، وزورو، وولد الزاهية وغيرهم، وورث هؤلاء أشخاص آخرين جعلوا المخدرات تجارتهم أو التهريب وغيرها من الأعمال الممنوعة .

خلاصة

يبدو أن ظاهرة “صحيح الحومة ” أو العزوة لها جذور في المخيلة الشعبية إما عن طريق التراث الشعبي باعتباره فارس القبيلة، والتي تمت عصرنتها مع ظهور المدينة والأحياء باعتبارها جزء من الذاكرة التاريخية، وزاد من زخمها تشجيع السلطات لها سواء في عهد الاستعمار 1912-1956 عندما تحول بعض العزوة إلى قياد ، وحيث كان هذا الاستعمار يعتمد على تشجيع هؤلاء ، وتشجيع مفاهيم البطولة الفردية وإبعاد وضبط الجمهور عن الانخراط في أنشطة مناهضة للاستعمار وأعوانه، وأيضا تمت تزكية هذه الظاهرة في الستينيات من القرن الماضي حيث انشغلت أجهزة البوليس عامة في الصراع السياسي الذي كان قائما ضد المعارضة ممثلة خاصة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وما ترتب عنه، وعند تحول هذه الظاهرة إلى مهنة إجرامية لدى فئة أخرى، حاولت استغلالها لأهداف لا أخلاقية وممنوعة أبدت الجماهير امتعاضها ورفضها لهذا التطور السلبي، ولكون سبيرة الجديد وأعوانه حاولوا الاستيلاء على جزء من سلطة الدولة، وكان الصراع السياسي أو الحزبي قد خف إلى حد كبير، عاد البوليس إلى ممارسة سلطاته، وبذلك تم القضاء على الظاهرة في شكليها البطولي و الإجرامي.

*باحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *