عبد الله العلوي- الإبتزاز في السياسة الدولية

القائمة البريدية

إشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد الموقع .

*عبد الله العلوي

أصبح الإبتزاز عنوان المرحلة التاريخية التي يعيش في ظلها العالم، فمنذ انهيار المعسكر الاشتراكي أصبح الابتزاز السياسي ممارسة تجاوزت الظاهرة، وصارت قاعدة للتعامل السياسي و الإقتصادي مع أقطار المنطقة العربية و الإسلامية، من طرف الدول الغربية ومنظماتها أو أذرعها الشبه العسكرية.

وقد تطورت عملية الإبتزاز تطورا غريبا مع موافقة الأنظمة على ذلك أيضا، ومشاركتها ضد بلدان شقيقة في تنامي عملية الإبتزاز، إلى أن صارت تمس حتى الحقوق الشخصية للفرد و العائلة و الدين، ومما زاد الظاهرة – أو القاعدة- تمكينا ظهور بعض الجمعيات و المؤسسات الداخلية واستدعاء أشخاص مشبوهين لرئاستها، لهم علاقات متشعبة مع المنظمات الغربية في أبعاد مالية أو عقائدية، ثم القوة الإقتصادية التي تكتسبها منظمات حقوق الإنسان التي صارت تجتاز الدول المؤهلة للإبتزاز خاصة إذا كانت تواجه أزمة ما ….. ويتم الإبتزاز عن طريق:

  • البعد الداخلي المتمثل في جمعيات وهيئات معينة قد تكون شبه رسمية ويتم إنشاؤها أصلا، وكذا تعيين مسؤوليها بالإبتزاز أو إرضاء الغرب.
  • البعد الخارجي عبر منظمات دولية حقوقية معينة.
  • البعد الإقتصادي المتمثل في القروض الدولية.
  • استغلال الأزمات و الصراعات الحدودية بين أقطار هذه الدول و إبقاؤها مستعرة.
  • إلغاء المقاومة الفكرية و الشعبية عبر تحييد الجماهير و منظماتها عن المشاركة في مواجهة الإبتزاز الدولي، وذلك بإلهائها بمباراة كرة القدم الأجنبية حتى صارت عندها لدى هذه الجماهير رمزا، و الأغاني المفسدة للذوق و قهرها بالفقر و الأمية و الفواحش.
  • تسليط نوعية من الحكام و إنشاء طبقة مصاصة للدماء مرتبطة بالغرب ثقافيا وفكريا.

لقد كان الإبتزاز الأبرز، ذاك الذي مورس من طرف واشنطن ما بين 1991 إلى 2003 ضد العراق، وقد شارك فيه تقريبا أغلب الدول لأسباب مختلفة: الخوف، الحقد، الإرتشاء، النفاق، وقد تم تمريره عبر منظمة الأمم المتحدة، ثم عبر دعاية إعلامية واسعة، وكانت النتيجة احتلال أفغانستان و العراق وقتل أكثر من مليون نسمة من مواطنيه.

وقد تم ابتزاز بغداد بمطالبتها بإزالة أسلحتها، بذريعة امتلاك السلاح النووي، واعتقد الكثيرون في حسن نية الغرب، في حين كان الأمر يتعلق بابتزاز سينتهي بإزالة كل ما يمكن أن تدافع به الدولة العراقية عن وجودها.

لقد اعتقد الكثيرون يومئذ أن الأزمة العراقية تتعلق فقط بنظام الرئيس الراحل صدام حسين، لكن المتتبع لمواقف اللوبي العسكري و المدني الأمريكي و اللوبي الصهيوني، يدرك أن الهدف هو معاقبة الشعب العراقي لأنه درس و تعلم و أنتج علماء؛ والمؤسف أن الإبتزاز تم بمشاركة الأشقاء كالرياض ودمشق وغيرهما، ولقد سقطت هاتان الدولتان أيضا ضحية الإبتزاز، ذلك، أن مئة مليار دولار أديت كتكاليف مؤقتة لواشنطن لعدوانها على العراق، و آخر قسط قدر من تلك التكاليف أدته الكويت خلال السنة الماضية، ثم تتابع مسلسل الإبتزاز بإصدار الكونغرس الأمريكي تشريعا يجيز للأفراد إقامة دعاوى تعويض ضد الدول العربية في أحداث 11 شتنبر 2001، أو أي قضايا أخرى تهم ما يسمى بالإرهاب.

ولما كانت هذه الدول -خاصة دول الخليج العربي- تستثمر و تودع أغلب أموالها في المؤسسات و السندات و البنوك الغربية فقد اكتملت عناصر الإبتزاز، إذ يمكن بمجرد صدور حكم، استخلاصه من تلك الودائع، وبعد أن اكتفت الدولة، فتحت للأفراد أيضا فرصة للإبتزاز.

ومن ضمن عناصر الإبتزاز مطالبة دول الخليج العربي بتمويل تحويل المفاعلات النووية الكورية الشمالية، إلى مفاعلات سلمية أو مدنية بتكلفة  مليارات الدولارات في حال التوصل إلى تفاهم بين بيونغ يانغ و واشنطن في هذا الشأن. وقد أكد هذا الأمر أمير قطر السابق في أحد تصريحاته الغاضبة قبل مغادرته السلطة بشهور قليلة، فكأن دول الخليج يهمها تحويل البرنامج النووي الكوري الشمالي مدنيا دون البرنامج الصهيوني و الإيراني.

ومن أهم عناصر الإبتزاز التي مورست على النظام الليبي  المطالبة بإزالة برنامجه النووي، وكان طوني بلير –رئيس وزراء بريطانيا الأسبق- و الأمير بندر بن سلطان، قد تدخلا بقوة و بوعود و وعيد للراحل معمر القذافي، حتى تمت تصفية البرنامج النووي السلمي الليبي؛ وبعد عدة أسابيع من تأكد الحلف الأطلسي من خلو ليبيا من القدرة الدفاعية، تم تدمير ليبيا و اغتيال و سحل الرئيس القذافي و إهانته معنويا و جسديا في عملية من أبشع ما عرف التاريخ الإنساني، وهو ما جرى للرئيس الراحل صدام حسين  و للعراق ككل.

 

عــنــاصــر الابــتــزاز

تبدأ عملية الإبتزاز بمواجهة دولة ما، ولتكن عربية أو إسلامية -فلا أحد يبتز الصين التي ترفض الأنترنت و تحتل التيبت- ولا أحد يبتز روسيا التي احتلت القرم- ولا أحد يبتز الهند التي تتواجد في جزء من كشمير- و لا أحد يبتز بريطانيا التي تحتل الفوكلاند -ولا أحد يبتز الكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين و الجولان و يمتلك السلاح النووي و الكيماوي و الجرثومي-، أما الدول العربية فيجب أن تواجه مشكلا ما، وإذا لم يك هناك مشكل فيجب اختراعه، وحتى لو كانت هذه الدولة ونظامها جزء من النظام العالمي، و تأتمر بأمره فيجب معاقبة الشعب لأنه قد يكون يوما ما شعبا قويا، فالعراق لم يدمر لأن صدام حسين يرأسه، بل تم تدمير شعب العراق ونزع كل الأسلحة العلمية و الثقافية وشرعنة الأمية و الخلاف والوهن و الطائفية و الصراع بين أفراده.

وتبدأ عملية الإبتزاز باستغلال أزمة ما يعيشها القطر و الدولة المقصودة، والمطالبة بإجراء تغييرات: اقتصادية، اجتماعية، قانونية، تقوم الدولة المقصودة بالموافقة على إجرائها، ثم تأتي المطالب مرة أخرى بوجوب تعديل أو حتى إلغاء قانون ما أو دعم اقتصادي ما أو أداء مطالبات ما، فتقوم الدولة المعنية بذلك، ثم تأتي المطالبة مرة أخرى بوجوب القيام بعمل ما: إرسال جيوش لبلد ما أو تسليم مطلوبين سياسيين، أو تقديم تقارير استخباراتية كاملة أو فتح المجال لكل الهيئات الأجنبية لممارسة ما تشاء في البلد كالتبشير، وما يسمى حقوق الإنسان و إلغاء القوانين المجرمة لفعل إجرامي ما، وتدمير مؤسسة الأسرة، و إلغاء المجانية في قطاعات محددة كالتعليم ، و إلغاء الدعم….. بناء السجون، وذلك بزرع اقتصاد الجريمة في الدولة المعنية، و إهداء قطاعات ومؤسسات اقتصادية كاملة لشركات البلد المبتز من أجل نيل رضاه؛ ونظرا للأزمة التي يعيشها القطر فهو لا يملك إلا الموافقة على ذلك، على أساس أن هذه الدول ستساعده في الدفاع دوليا عن قضاياه أو قضيته الحيوية.

لا تنتهي عملية الإبتزاز إلا عندما يتضح أن الدولة المعنية لم يعد لها ما تتنازل عنه أو تعدله، وتبدأ عملية تغيير المواقف السياسية من القضية الحيوية التي تنازلت من أجلها الدولة المعنية عن الكثير و الأهم من مواثيقها ودفاعاتها الفكرية و الاجتماعية و الروابط بينها و بين القطاعات الجماهيرية؛ وبعد أن يتم تمييع الحياة الإجتماعية و السياسية للبلد، عندها تطالب الدول أو الدولة الغربية بوجوب اتخاذ موقف نهائي تحت طائلة تهديد الدولة المعنية بالتنازل عن مبادئها الوطنية و بتدمير الموقف الوطني الذي تخلت من أجله عن كل شيء.

ولما كانت دول الإبتزاز تغير حكامها بسرعة مع كل انتخابات، فإن القطر أو الدولة المعنية التي منحت كل أسباب قوتها لدول الإبتزاز، تواجه بأشخاص آخرين لا علاقة لهم بالوعود السابقة بتأييد الموقف الوطني أو الموقف السياسي أو بحل المشكل الحيوي، وعندئذ يواجه البلد أو القطر أو الدولة المعنية بتجاهل تام  وبموقف عدائي نهائي حاسم، وبذلك يكون الإبتزاز قد بلغ نهاية حدوده، وذلك، بتدمير الدولة المعنية على جميع المستويات السياسية و الإقتصادية و الشرعية والوطنية.

إن الوعي بأهداف الإبتزاز الدولي وخطورته يفرض مواجهة التحديات التي يطرحها هذا الابتزاز، وذلك، عبر مشاركة الجماهير الشعبية بكل تياراتها الوطنية والمناضلة، وتغيير إعلامي شامل يفضح خطورة المواقف الاقتصادية و السياسية الرخوة على البلد، وذلك، بتفعيل العمل السياسي الحزبي و النقابي و الإعلامي المكتوب و المسموع، ولنا في تاريخ الدول الأخرى عبرة و إسوة.

فبالرجوع إلى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر الدولة الأولى الممارسة للإبتزاز، فقد جاء في دستورها لسنة 1776: “إننا نؤمن بالمبادئ التي تقول إن الناس جميعا خلقوا متساوين فيما بينهم، و إن الله خالقهم قد أعطاهم حقوقا لا يمكن سلبهم إياها، ومن هذه الحقوق حق الحياة و حق الحرية“.

وفي التعديل الثاني للدستور الأمريكي عام 1791 جاء مايلي: “إن من حق المواطنين الدفاع عن وطنهم، وحقهم في حمل السلاح لا يجوز المساس به”.

أما تاريخ المقاومة في فرنسا، خصوصا بعد احتلالها من طرف ألمانيا (1939-1944)، فأدبياته معروفة. وكذلك اسبانيا التي كافحت ضد كل محاولات الاستعمار و الانفصال بإرادة صلبة. هذه الدول اليوم هي التي تدبر أسباب تجزئة العالم الإسلامي أرضا ولغة و طائفة و تحرضه على ذلك، ومما يزيد من ضغوطها عليه ما ينوء تحته من مواقف رخوة وفرقة و خلاف….وتحييد للجماهير، وعدم تكوينها، وتكريس الأمية و الفقر في أوساطها، وآفة نشر ثقافة الاستهلاك بينها.

إن التمسك بالوحدة و الفكر، و التصدي للجهل و محاربته مدرسيا و إعلاميا لهو السبيل الأنجع، بل الوحيد للدفاع عن الوجود و الوطن و الأمة، ولا مقارنة بين كيانات العدوان و توحيد الأوطان، بالإضافة إلى وضع برنامج للاستعانة بالوسائل الحديثة للدفاع عن الوطن أو ما يملكه الغرب من أسلحة حتى يمكن بناء اقتصاد و مجتمع في ظروف مستقلة و مرتكزة على تراثنا المشرق الملتفة حوله الجماهير مع التوجيه الإعلامي  والتعليمي المواكب للمرحلة و للأهداف الوطنية و القومية و الإقليمية، وهي بناء مجتمع بديل مبني على الأسس التربوية و التعليمية و القوة في جميع الميادين بما فيها العسكرية، إذ لا يمكن بناء مجتمع بدون حماية متناسبة مع ما يملكه الآخرون.

*بـــاحـــث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *