تشكيل- صلادي الفنان الغرائبي

القائمة البريدية

إشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد الموقع .

عبد الرزاق  القاروني*

الفنان العصامي عباس صلادي نسيج وحده، وعلامة فارقة في المشهد التشكيلي المغربي، عاش بسيطا في حياته، لكن بعد وفاته أصبح من أشهر الفنانين، حيث بيعت لوحاته بالملايين، وأصبحت من أكثر الأعمال عرضة للتقليد والقرصنة، التي يتهافت على اقتنائها العديد من كبار مقتني اللوحات، عبر العالم.

رأى هذا الفنان النور سنة 1950 بمراكش. وفي نعومة أظافره، توفي أبوه، ليكفله عمه بالدار البيضاء، حيث بدأت تظهر موهبته في مجال الرسم. وبعد حصوله على شهادة الباكالوريا، انتقل إلى الرباط لمتابعة دراسته الجامعية بشعبة الفلسفة. لكن ما لبث أن أصيب بنوبة نفسية عصيبة، أدت به ليعود نهائيا إلى مسقط رأسه، ويجعل من الرسم خبزه ومتنفسه اليومي. وخلال مساره الفني الغني والمتنوع، نظم عدة معارض فنية فردية وشارك في أخرى جماعية داخل المغرب وخارجه، التي كانت تلقى صدى طيبا لدى الزوار وفي مختلف الأوساط الثقافية والصحفية.

لم يكن لصلادي وقت معين للرسم. ففي بعض الأحيان، كان يرسم بالليل وفي أحيان أخرى كان يرسم بالنهار. وبين هذه الأوقات التي تتوزع بين الضوء والظلام، كانت تتشكل اللوحة وتأخذ أبعادا أبعد من الواقع وأقرب إلى الخيال.

الإلهام ينزل على الفنان في أي وقت. فينقلب الليل نهارا ويصبح النهار ليلا. لا فرق بين أوقات العمل وأوقات الراحة. تزول خطوط التماس، يسهر الفنان، يقضي ليلة بيضاء، لكن لا يشعر بالإجهاد. فللرسم طقوس متقلبة، وللإلهام منطق خاص.

عندما كانت تستبد رغبة الإبداع بصلادي كان يخلو بنفسه في مرسمه، يبتعد عن الإزعاج ثم يحمل الفرشاة، فتنساب الخطوط من بين أنامله دقيقة ومنمقة في شكل رسومات عجائبية جميلة تمزج بين الإنسان والحيوان والنبات.

لقد كان صلادي يسمي اللحظات التي يخلو فيها إلى الرسم بـ “اللحظات الشاعرية”. فبالرسم كان يعبر هذا الفنان عن مكنونات صدره. عندما يتألم، كان يرسم ليثأر لنفسه وعندما يفرح، كان يلون البياض ليعلن سعادته على الملإ.

إن العلاقة بين الرسم والشعر علاقة وطيدة. وفي هذا الصدد، يقول الشاعر اليوناني سيمونيدس: “إن الشعر رسم ناطق والرسم شعر صامت”، ويضيف الشاعر والناقد اللاتيني هوراس، بطريقة مختزلة: “القصيدة مثل اللوحة”. من هنا يمكن القول، إن الشاعر يشعر بنظم القوافي، والفنان يبدع، بلمسة شاعرية، من خلال تشكيل اللوحات.

حينما أتأمل رسومات صلادي أصاب بحالة من الانبهار. فهي مليئة بالأشباح والحكايات، مليئة بالأساطير والرموز، الشيء الذي يجعلها تبدو ليس كلوحات فنية، وإنما كتجسيد غرائبي لبعض الحكايات الشعبية.

وبخصوص طريقة صلادي في الرسم، أوضح الشاعر عبد الله زريقة، الذي له معه عمل مشترك هو عبارة عن ديوان يحمل عنوان “تفاحة المثلث”، صادر سنة 1985، بأنه كان لا يرسم شخوصه فقط، وإنما كان يعايشهم في كل كبيرة وصغيرة، إلى درجة أنه كان يعيش عالمه الآخر ويؤمن بأن الإبداع لم يخلق عبثا وإنما للحياة فيه ومن أجله. وفي هذا السياق، يقول الفنان الراحل إنه كان يرسم لكونه يجد متعة شخصية في ذلك، مع الحرص على أن يكون مستقلا وفي حل من أي تبعية لأي مدرسة فنية كانت.

وخلال سنة 2015، بيعت لوحة هذا الفنان الموسومة بـ “الهدية”، في مزاد مشترك منظم من طرف داري المزادات “ميلون” بباريس و”مزارت” بطنجة بمبلغ قياسي تجاوز خمسة ملايين درهم، وتعتبر هذه اللوحة، التي تجسد العالم الغرائبي والعجائبي للفنان الراحل، من أغلى اللوحات في تاريخ الفن المغربي المعاصر. ونظرا للإقبال الكبير على لوحات صلادي بعد وفاته، أصبحت أعماله عرضة للتقليد والتزييف، مما يشجع السوق الموازية وغير الشرعية للفن، ويسيء لذاكرة هذا المبدع، وأصالته وفرادته في المجال التشكيلي.

إن الفعل الإبداعي عند صلادي مسكون بالمرض ولحظات الانكسار، حيث كان يرسم ليتداوى ولينسى أو ليتناسى مرضه الذي يلاحقه مثل ظله. لقد بدأ هذا الفنان يرسم عندما كان نزيلا في مستشفى الرازي بسلا، وتوفي بمستشفى المامونية بمراكش بعدما أجهدته هموم الإبداع ومضاعفات المرض. لكن بين تاريخ دخوله إلى مستشفى الرازي وتاريخ وفاته في مستشفى المامونية، هناك مسار فني طويل وعطاء إبداعي خصب.

قصة الفنان الراحل مع المرض قصة غريبة تشبه إلى حد ما حكاية طائر الفينيق، هذا الطائر الخرافي الذي ما إن يحترق حتى ينهض من رماده ليحيا مرة ثانية. لقد كان هذا الفنان عندما يمرض، يصاب بحالة اكتئاب قصوى، تجعله يهجر الرسم وعاداته المألوفة، غير أن هذه الحالة لا تستمر طويلا. فما إن يدخل المستشفى، بفترة وجيزة، حتى تتحسن صحته، ويبدأ يرسم كأن أي شيء لم يقع.

وأثناء إحدى زياراتي السابقة لمنزل صلادي، أطلعتني أخته حليمة على بعض مخلفاته. وما أثار انتباهي في هذه المخلفات شيئان: لوحة ومذكرة.

اللوحة، عبارة عن تشكيل بالأبيض والأسود صور فيه الفنان الراحل نفسه بطريقة رمزية بليغة، إذ يظهر فيه مثل إنسان آلي بعقل بشري، مكتوب في جبهته، بالفرنسية، اسمه العائلي. هذه اللوحة ترمز إلى أشياء كثيرة، وتقبل عدة تفسيرات. لكن التفسير الأقرب إلى الصواب، في نظري، هو أن هذا الرسم يحيل إلى الصورة التي كان يحملها هذا الفنان عن نفسه، فنان مريض، يشتغل بدون عناء ولا عياء مثل الآلة.

أما بالنسبة للمذكرة، فهي على شكل يومية دون فيها صلادي بعض الأحداث، التي عاشها خلال السنة الأخيرة من حياته، مثل الشلل الذي بدأ يداهم جسده، والذي جعله يكتب في ورقة 05 يوليوز 1992 الكلمة التالية: “البداية الفعلية للشلل، شلت يدي اليسرى وأحس به يبتدئ في الرجل اليسرى”.

في هذا التاريخ، توقف صلادي عن تدوين يومياته. وبعد شهرين من ذلك، أودع الروح حيث ووري الثرى، يوم 06 شتنبر 1992 بمراكش. وأذكر أنه، ذات مرة، قال: “لن أتخلى عن الرسم حتى القبر”. لقد وفى صلادي بالعهد الذي قطعه على نفسه، لقد عاش مهتما بالتدوين ومنكبا على الرسم حتى آخر رمق في حياته.

* عبد الرزاق  القاروني/صحفي وناقد فني

– ملاحظة: لصاحب المقال عدة كتابات صحفية عن الفنان الراحل عباس صلادي، صادرة باللغتين العربية والفرنسية، بعدة مجلات وجرائد ورقية مغربية، منذ تسعينيات القرن الماضي.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *